قصة اليوم مما أعجبنى من القصص
المحبة مفتاح الابواب المغلقة
قالت : تربطنى صداقة حميمة بجارتى التى تكبرنى بأعوام وأعوام ، أكاد معها أبدو وكإبنة وأمها ، وهى وإن كانت قد تخطت سن الكهولة والنضج وولجت سن الشيخوخة والحمكة ،فإنى لم أشعر يوماً الا بروح الشباب تدثر أعطافها ،فالابتسامة مشرقةٌ دائماً على وجهها والكلمة الطيبة تسبق الى فمها ، والعُذُوبة تقطر من لسانها ،والنظرة المحبة للحياة تنبثق من عينيها ،مما دفعنى يوماً الى سؤالها عن سر هذه الروح المتوثبة المتفائلة المحبة للبشر فانفرجت شفتاها عن إبتسامة ودودة حملت نقاء قلبها كإشراقة طفل على وجه شيخ أتبعتها بسؤال لطيف قالت : هل توعدينى ألا تفشى سرى لأحد إذا أطلعتك عليه ؟ وعدتها بذلك ،فانسابت تحكى لى قصتها بوجدانها ولسانها معاً قائلة : ( منذ أكثر من خمسين عاماً كنت فى نهاية مرحلة الطفولة وبداية مرحلة المراهقة كما تسمونها الآن ،كنت ذات مرة ألعب فى غرفتى مع إبنة الجيران ،فنادتنى أُمى قائلةً لى إن والدك يريد أن يحدثك فى أمر ، وكان رحمه الله وقوراً وليس من عادته ان يتحدث الينا بامر إلا فيما ندر ، بل طلباته وأوامره تنقل الينا عادة بواسطة الوالدة ، فاستأذنت صديقتى وهرعت الى ابى فى غرفته ، وإذا به يطلب منى أن أضع علىَّ ملابس مناسبة لأدخل على ضيوفه وإذا بهم خالى وأخى الكبير والرجل الذى سوف يُعقد قرانى عليه ولم يكن ثَمَّةَ مجال للإستفسار او الاعتراض أو التساؤل ، فأذعنت لأمر والدى ، وما هى الا ايام معدودات واصبحت فى بيت أهل زوجى ،هكذا كان مصيرى ، ووجدت نفسى خادمة مطيعة لأهل زوجى ، ولم يكن يخفف عنى هذا العبء المضنى سوى حبه لى ،لكن ما كان يؤرقنى هو والدة زوجى التى كانت لا تكف عن إنتقادى فمهما فعلت فلا يعجبها شىء ، ، وربما كانت على حق وقتها لأنى فعلاً كنت لا أتقن الكثير من الاعمال المنزلية ، وكم حاولت أن أغير نظرتها لى بالتفانى فى خدمتها ومساعدتها ، لكن نظرتها السوداوية لى لم تتغير ، فأصبحت أشكو لزوجى تصرفاتها دون ان يستطيع فعل شىء سوى تذكيرى بأنها أمه وان من واجبى أن احتملها وأسعى الى رضائها فلم يكن منى إلا ان حاولت الخروج عن سيطرتها ،مرةً بالكلام ومرة بفعل عكس ما تامر به حتى زادت الفجوة بينى وبينها ،ولم يكن ثمة مجال لإصلاح او شكوى لأهلى ،فأمى لا تنقل لأبى ما أنقله لها عن حالتى بل تحدثنى فى كل مرة عن فضائل الصبر ، حتى كرهت تلك الكلمة (الصبر) وتحولت حياتى الى ما يشبه الجحيم ، فماذا أفعل حتى أتخلص من هذا الكابوس ؟
وذات يوم إغتنمت فرصة وجودى مع والدتى فى السوق فى إحدى المرات القليلة التى كنت اخرج فيها فغبت عن عينيها برهة ودلفت الى دكان العطار الذى يعرفنى منذ كنت طفلة وأخبرته بمشكلتى مع حماتى ، وطلبت منه أن يساعدنى بإعطائى سماً لأضعه فى طعامها ،ففكر العطار قليلاً ،ثم قال لى هل تعديننى أن يبقى الامر سراً بيننا ، وأن تنفذى ما أطلبه منك تماماً ؟ فأجبته باليجاب ، فدخل الى غرفة خلفية فى دكانه ، وعاد وبيده لفة فتحها امامى فرأيت فيها شيئاً أشبه بالبهار الأبيض ، ثم قال : هذا طلبك ! عليك ان تضعى مقداراً قليلاً من هذه المادة كل يوم فى طبقها الخاص بحيث يتغلغل السم فى جسد حماتك تدريجياً وليس بشكل فجائى ،وذلك لكى لا تموت بسرعة فيشتبهون بك ،فتقومين بالاعتراف علىّ فأخسر سمعتى بين الناس وأتحول الى مجرم وانا أريد مساعدتك ولذا فمن واجبك كى لا يشك بك أحد أن تعامليها أحسن معاملة هذة الفترة وكأنها والدتك الحقيقية ،بل كأنها ملكة إن استطعت . شكرت العطار من قلبى وعدت الى منزلى وقد عزمت على تنفيذ ما طلبه منى حرفياً كى تموت دون أن يشعر احد بأنى سبب موتها ، وهكذا زيَّن لى شيطانى أن اتخلص من تلك المرأة التى أحالت حياتى الى نكد ، وهكذا مر اليوم وراء اليوم وأتى الشهر وراء الشهر , وأنا أتقرب منها وأتزلف اليها ولا أدع أحداً يخدمها سواى حرصاً منى على ان اضع لها فى طبقها شيئاً من تلك المادة السامة حتى يحين أجلهالا الذى لم اكن اتخيل إلا أنه حاصل اليوم أو غداً .
مضت ستة شهور وحماتى لم تمت لكن لطيب معاملتى لها تلك الفترة وإغراقى لها بالشكر على ما صنعت وما لم تصنع ، وطاعتى لها على ما اقتنعت به من كلامها وما لم أقنع ، إنقلب حالها معى وتغيرت معاملتها لى فأصبحت أحب اليها من ابنتها التى ولدتها ، وصارت لا تخرج الى مكان إلا تصحبنى معها وحثما وجدت أحداً من معارفها قدمتنى لهم على إننى أفضل إمرأة تحلم بها أُم كزوجة لإبنها ، ورويداً رويداً تحول كرهى لها فى قلبى الى حب ، فصرت أقدم لها ذلك الطبق دون ان أضيف اليه السم ، وكنى خشيت أن تسبب الكمية التى تناولتها سابقاً اى تأثير قادم او اذى مقبل على صحتها وجسمها ،فذهبت الى ذلك العطار أساله المعونى على استخراج ذلك السم من جسدها وأخبرته انها تغيرت وأصبحت معاملتها لى كمعاملة الام ، فجائنى جواب العطار وكأنه ماء بارد سكب على جسدى ،قال : لا تقلقى يا ابنتى فتلك المادة التى اعطيتك ايها ليست سوى مادة مقوية لجسدها ليتمكن من مقاومة الشيخوخة السم الحقيقى كان فى نظرتك اليها فأنتى لم تتقبليها كأم ، فأصبحت بالنسبة لك عدوة ،
أما عندما عاملتيها بالحب واللطف فقد عاملتك بالمثل ، وهكذا لإنسحب السم كله من قلبك وعقلك فبالحب وحده تزول كل سموم الحياة .
وختمت جارتى العزيزة قصتها قائلةً : عاملى الناس بالطريقة التى تريدين أن يعاملوك بها مستقبلاً فكل من يحب الناس يكون محبوباً لديهم .وربما كان لله حكمة ان يغير الأشخاص الآخرين من خلالنا نحن .
تقول الراوية : فخرجت من عندها متلقيةً درساً آخر من دروس الحياة ، وظللت أردد قوله تعالى (( إدفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبيه عداوة كأنه ولى حميم )) صدق الله العظيم (فصلت الآية 34 )